الاستاذة ندى مسوتي, [25/09/2023 08:43 م]
مما قال شيخ البلاغيين فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى
في درس من شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف
(الأحد: غُرَّة ذي القعدة 1444هـ = 21 مايو 2023م)
===
• كرَّرتُ كثيرًا جدًّا أن كلَّ كلمة يكتبها العالِم المتميز الذي هو من طبقة عبد القاهر، أو مَنْ هو دون طبقة عبد القاهر، لا بد أن تكون موضع عناية وتدقيق مِنَّا في فَهْمها؛ لأنهم لم يكتبوا إلا ما يرونه أصلاً في العلم، وما يرونه أصلاً في العلم يجب أن نُحصِّلَه تحصيلاً دقيقًا جدًّا.
• الفقرة (314) فقرة مألوفة من عبد القاهر؛ لأنه يشكو فيها من غموض هذا العلم، وأن الغموض فيه بلغ منتهاه، وأنك لا تجد شيئًا يَغْمُض هذا الغموض إلا في هذا العلم، ويؤكد هذا المعنى.. وهذا الذي قاله عبد القاهر يمكن أن أكتفي فيه أنا بالذي قلتُه وتكتفي أنت فيه بالذي سمعتَه، ثم نمضي، وهذه هي الغفلة في فَهْم كلام العلماء.
• وصلاً للكلام في الفقرة (314) خاطب شيخُنا الإمامَ عبدَ القاهر قائلاً: «يا سيدنا، إن كان الغموض الذي تشكوه في مسائل علم البلاغة فأنت واضعُها؛ فهي لم توجد قبلك، ولم نعرفها قبلك لا ظاهرة ولا غامضة، إذًا ماذا أردت بالغموض؟! أنت مؤسس هذا العلم ولا نعرف هذا العلم قبلك، وإنما عرفناه بقلمك وبكِتابك؛ فماذا تعني بالغموض ونحن نبدأ بهذا العلم وفي هذا العلم معك؟!»، ثم أجاب شيخُنا: تجد أن هذا الغموض ليس في مسائل البلاغة؛ لأنه هو واضعُها، وإنما الغموض الذي يبلغ منتهاه هو ما في البيان وما في الكلام البليغ نفسِه من أسرارٍ وفَهْمِ مقصودِ صاحب الكلام من كلامه، وتلك وصية منه لي ولك، وهي أن تقرأ البيان بوعي بالغ، ولا تكتفيَ بظاهر الدلالة؛ لأن الكلام له ظاهر معروف وله باطن لا يعرفه إلا مَنْ أحسن تدبُّرَه وأحسن وَعْيَه.
• إن كنت تريد أن تكون شيئًا فلا تكتفِ بما في بطون الألفاظ، ولكن ابحث عن الذي في بطون المعاني، والبحث في بطون الألفاظ قد تُعينك عليه المعاجم، أما البحث عن الذي في بطون المعاني فلا يُعينك عليه إلا التدبُّر والعقل والفهم والوعي والخبرة بكلام العرب، وهذا شيء مفيد جدًّا جدًّا.
• كلُّ علوم العربية؛ من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ، تدور حول استخراج معنى النص، وقد باشرتُ ذلك كلَّه ولم أجد في المعرفة أغمضَ ولا أهمَّ ولا أجلَّ من معنى النص، ولذلك كان التحليلُ ضرورةً لمن يريد أن يُكوِّن عقلاً علميًّا.
• تَحفظُ البلاغة متونًا وشروحًا، وتَحفظُ النحو متونًا وشروحًا، ولكن تبقى قدرتُك على تحليل البيان ومعرفة أسراره ودقائقه، وهذه هي القدرة التي يُعدُّ فيها العجزُ عجزًا، ويُعدُّ فيها الفَهْمُ فَهْمًا، ولن تسمع مني أفضلَ من هذا الذي قلتُه لك.
• عليكم ليس بما استخرجه العلماء من كلام العرب، وإن كان هذا ضرورة، وإنما عليكم بكلام العرب نفسِه، وما دارت به ألسنةُ العرب والأعراب من شعر ونثر؛ لأن هذا هو الذي يَقْصدُ علمُ البلاغة إلى بيانه، ويَقْصدُ علمُ الإعراب إلى بيانه، وتَقْصدُ كلُّ علوم العربية إلى بيانه، ويَقْصدُ علمُ التفسير إلى بيانه، ويَقْصدُ علمُ الحديث إلى بيانه، والدِّينُ فيه، والأدبُ فيه، والفصاحةُ فيه؛ فعليكم بهذه النصوص.
• من العجيب، ومن اللطيف، ومن الرائع، أنَّ الله يَسَّر القرآن للذِّكر ويَسَّره للفَهْم، وما دام يَسَّره للذِّكْر فقد يَسَّره للفَهْم، وأنَّه جعل لنا كلام أهل البيان الذين نزل فيهم القرآن طريقًا إلى فَهْم كلامه، ولذلك تجد كتب التفسير مشحونةً بشعر الجاهليين؛ لأنه هي مفاتيح فَهْمِ هذا الكتاب العزيز، ولمَّا دخل الدينُ ما دخلَ عليه الليلُ والنهار، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليَبْلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغُ الليلُ والنهار»، وقد كان كما قال، هو قال هذا والمسلمون قِلَّةٌ ومُطارَدة، لكنَّ الوحي أبلغه أن هذا الدين سيدخل ما دخل عليه الليل والنهار، ودخل مع هذا الدين ما دخل عليه الليلُ والنهار الشعرُ الجاهلي؛ لأن القرآن وحده لن يدخل عليه الليلُ والنهار إلا مصاحبًا للسان العربي المبين الذي هو كلام العرب والأعراب، ودخل الشعر الجاهلي ما دخل عليه الليلُ والنهار بما فيه من لهو وعبث، وحفظ المسلمون هذا الشعر بما فيه من لهو وعبث؛ لأنه – مع صرف النظر عن لهوه وعبثه – طريقُ فَهْم القرآن.
• الذي سيبحث في الشعر الجاهلي عن لهوه وعبثه يَتلهَّى ما شاءت نفسُه أن تتلهَّى، إنَّما أهل البصيرة يبحثون في لهوه وعبثه عن بيانِه عن لهوه وعبثه.
• أبو نواس من الشعراء الذي لا يُبحث في شعرهم عن لهوهم وعبثهم، وإنما يُبحث عن بيانهم عن لهوهم وعبثهم، وقد سرَّني واغتبطتْ نفسي حين قرأت أن أبا نواس في آخر أيامه تاب وأناب وتبرَّأ مما قال.
• عشتُ مثلَكم زمنًا طويلاً وأنا في غفلة شديدة؛ هي أن عبد القاهر دائمًا يُكرِّر غموض مسائل علم البلاغة، وأقول لطلابي إن عبد القاهر دائمًا يُكرِّر غموض مسائل علم البلاغة، ولا أنا أفهم السِّر، ولا طلابي يفهمون السِّر، وإنما هو كلام أقوله وهم مساكين يسمعونه، وكفى الله المؤمنين القتال.